تقرير محكمة الحسابات: خطوة جديدة في معركة طويلة ضد الفساد

بواسطة أبوه مولاي ادريس

أعاد التقرير الأخير الصادر عن محكمة الحسابات في موريتانيا، والذي شمل اتهامات بالفساد تطال نحو ثلاثين شخصية عامة،النقاش من جديد حول فعالية آليات الرقابة المالية وجدّية الدولة في محاربة الفساد المستشري في مفاصل الإدارة العمومية. 
التقرير لم يكن مجرد وثيقة تقنية، بل بمثابة جرس إنذار يدقّ لتنبيه منظومة التسيير العمومي.
بين التقارير السابقة وهذه النسخة: ما الذي تغيّر؟
منذ إنشاء محكمة الحسابات، ظلت تقاريرها الدورية تُبرز اختلالات في صرف المال العام، وسوء تسيير في بعض المؤسسات، غير أن الجديد في هذا التقرير هو الوضوح في تحديد المسؤوليات والتوجه نحو المتابعة القضائية المباشرة.
فقد أعلن المدعي العام لدى المحكمة العليا، القاضي محمد الأمين محمد الأمين، أن السلطات القضائية ستباشر الإجراءات القانونية ضد كل من تُثبت مسؤوليته في اختلاس أو تبديد المال العام، وهو ما يعني أن مرحلة “الملاحظة والتوصية” قد تتطور هذه المرة إلى مرحلة المحاسبة الفعلية.
الفساد في قلب النقاش العام
الفساد في موريتانيا ليس موضوعًا جديدًا، لكنه يظل من أبرز التحديات أمام التنمية والاستقرار المؤسسي،مشاريع تنموية عديدة توقفت أو تعثرت بسبب سوء التسيير وغياب الشفافية، وهو ما جعل محكمة الحسابات تحظى بأهمية خاصة بوصفها الهيئة العليا للرقابة على المال العام.
غير أن تساؤلات عديدة تُطرح اليوم:
هل ستتحول هذه الاتهامات إلى ملفات قضائية حقيقية تُفتح أمام المحاكم؟
وهل ستُحترم مبادئ العدالة والشفافية في هذه المتابعات؟
بين الإرادة السياسية والواقع الإداري
لا شك أن رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني جعل من محاربة الفساد أحد أعمدة خطابه السياسي، معلنًا في أكثر من مناسبة أن “لا أحد فوق القانون”،ومع ذلك فإن التحدي الأكبر يكمن في ترجمة هذه الإرادة إلى واقع ملموس.
فمواجهة الفساد تتطلب إصلاحًا عميقًا في المنظومة الإدارية والرقابية، وتحصينًا للقضاء من أي تأثير سياسي، إضافة إلى إشراك المجتمع المدني والإعلام في عملية الرقابة والمتابعة.
رسالة إلى الرأي العام
يرى مراقبون أن هذا التقرير يمثل اختبارًا حقيقيًا لجدّية الدولة في تطبيق مبدأ المساءلة.إذ كان الإفلات من العقاب، على مدى عقود، من أبرز معوّقات الإصلاح.
وإذا ما تم تطبيق القانون على الجميع دون استثناء، فسيكون ذلك تحولًا جوهريًا في مسار الحوكمة في موريتانيا.
لكنّ الشارع الموريتاني لا يزال حذرًا؛ إذ سبق أن صدرت تقارير مشابهة لم تتبعها محاكمات أو استرجاع فعلي للأموال المنهوبة. لذلك، فإن ما سيحدث في الأسابيع المقبلة سيحدد إلى أي مدى يمكن الوثوق بأن الدولة تسير فعلاً نحو بناء منظومة شفافة ومسؤولة.
وأخيرًا
يأتي تقرير محكمة الحسابات هذه المرة في لحظة دقيقة من تاريخ البلاد، حيث تتقاطع تحديات اقتصادية واجتماعية مع ضغوط داخلية وخارجية من أجل ترسيخ مبادئ الحكم الرشيد.
إن تحويل هذا التقرير من وثيقة رقابية إلى أداة إصلاح فعلي سيكون بمثابة نقطة تحوّل في العلاقة بين المواطن والدولة، ويعيد الاعتبار لمبدأ أن المال العام أمانة لا ملكية، وأن من يعبث به سيحاسب عاجلًا أم آجلًا.
لكن النجاح في هذه المعركة لن يتحقق فقط بالإجراءات القضائية، بل يحتاج إلى إرادة سياسية ثابتة وإصلاح إداري عميق يقطع مع ثقافة الفساد المتجذّرة، ويُعزّز من استقلالية مؤسسات الرقابة والعدالة.
كما يتطلب الأمر وعيًا مجتمعيًا يدرك أن مكافحة الفساد ليست مهمة الدولة وحدها، بل هي مسؤولية وطنية مشتركة بين المواطن والسلطة والإعلام.
فإذا ما استثمرت الدولة هذا التقرير كمنعطف لإعادة بناء الثقة وتعزيز الشفافية، فإن موريتانيا يمكن أن تفتح صفحة جديدة في مسارها التنموي، عنوانها:
“المحاسبة أساس الحكم الرشيد، والشفافية ضمانة المستقبل.”.

بقلم:تماد إسلم أيديه
كاتبة صحفية وباحثة في الشأن العام